أحزان خريف


لطالما أثر فيه فصل الخريف.. لطالما ذكره بلوحات مواقف رُسِمت ومضت.. مع الخريف..

يذكر ذلك اليوم التائه عند سقوط آخر الأوراق.. اليوم الذي صادف فيه ملاكاً حالماً أمده بقوة وشـوق وحلم.. ثم اختفى..

كان يوماً قارص البرودة.. وكانت هي الملاك الذي جلس على المقعد الخشبي المنزوي في طرف الحديقة العامة.. تظللها عبثاً شجرة لوز عارية إلا من بعض وريقات صفراء، حمراء، ذهبية تتراقص مع كل نسمة..

في ذلك اليوم قصد الحديقة شاكياً من فراغه ووحدته.. فلمحها من بعيد مستغرقة في مناجاة كتاب صغير، تحمله برقة بين راحتيها… “هالة من السحر تلفها”.. هالة جعلت من قدميه آلة بشرية منقادة تعبر إلى حيث يكمن السحر!

تجرأ وحياها.. قبادلته التحية بشيء من الاستغراب.. استأذن أن يجلس بجانبها فلم تصده، ربما ذوقاً وربما ثقة وربما فضولاً. ابتسمت في وجهه وشجعته على الكلام ومن ثم الاسترسال في الحديث..

تحدثا كثيراً.. كثيراً كثيراً..

تحدثا عن كل شيء؛ عن جراح حفرت الماضي.. وعن آلام قهرت الحاضر..عن أحلام ستموت في المستقبل…

ثم تخدثا عن أحداث فخر وعزة جعلت للماضي قيمة.. وعن إنجازات أكدت ان شجر الحاضر يؤتي أكله..

عن آمال ربما تجعل من المستقبل بستاناً خيّراً يحصل الجميع منه على الكفاف….

كل منهما أعرب للآخر عن إعجابه بفكره ونظرته وتحليله وإصابته للواقع على الرغم من تمسكه بالحلم…

تأخر مكوثهما الدافىء وجاء موعد الوداع..

عندما سألها لقاءً آخر دعته لان يكون للصدفة كما كان اليوم، فما كان منه إلا أن أذعن واستسلم لرغبتها وتودعا على أمل اللقاء.

هو… سحرته ابتسامتها وتعلقت صورة عينيها القويتين في مخيلته…

ومن ذلك اليوم لم ينس حديثها.. ولم يتوقف أبداً عن التفكير في كمالها ورقتها… لكنها كانت كالخيال.. لم تظهر بعد ذلك اليوم.. ذهب إلى الحديقة كل يوم ولم يجدها.. انتظر كثيراً تحت مطر الشتاء وثلجه.. انتظر مع زهور الربيع وصوره.. انتظر عبر مرح الصيف ولهوه.. لكن.. دون جدوى.. دون جدوى..

سجّل هذا اليوم في تاريخه.. وكل يوم يوافقه في كل عام؛ يجلس تحت شجرة اللوز ذاتها وينتظر..

حيناً يضحك لتذكره نادرة قالتها..

وأحياناً يبكي لأنه ضائع هائم لا يدري كيف يجدها..

ارتبط حزنه وبكؤه وضياعه بالخريف..

بسقوط أوراقه وقفرة غاباته.. ووحشة أصواته..

وأنين العاشقين المتردد في أرجائه………..


2 responses to “أحزان خريف”

  1. قطعة رومانسية ، تعزف بلحن مسبق .. غير أن اللغة تشفع لهذا الحضور البهي ، وهذه القراءة الأولى ..
    وسارة زهران تثبت أن وراء هذه اللغة اشياء ستدهشنا بمرور الوقت ونهم القراءة واتساع التجربة ..
    لك مني اجمل الصفاء
    هي اطلالة عصفور اربكه فخ فغرد مفجوعا على صفحتك ، سأعود حين تهدأ نفسي واسترد صفاء روحي
    كوني بخير

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *